Saturday, March 31, 2012

بلا عنوان..

لعل التناقض الذاتي والبراجماتية العلمية الباردة هما أبرز ما يجب توفره في كل من يود أن يحظى بمنحة الانتساب إلى هذا العصر الرقمي المتسارع. إذ لم يعد للصدق مع النفس -بمعناه الحقيقي العميق- أي قيمة تذكر. طبعا هذا إذا افترضنا -جدلا- أنه لم يصبح من الموبقات والمحرمات التي يحاسب عليها القانون.

 ما قد يدفع الناظر إلى الواقع بعين تأملية تحليلية إلى مثل هذا الاعتقاد هو أنه بات من الملحوظ بشكل واضح أن المبادئ السامية التي ما فتئ إنسان هذا العصر ينادي إليها ويحلم بها هي آخر ما يحترمه ويلتزم بتطبيقه على أرض الواقع. بل إن هذا التناقض "الشيزوفريني" بات يتعدى ذلك إلى أن أصبحت المناداة بمبادئ وشعارات من قبيل "الحرية" و"العدالة" و"المساواة" و"حقوق الإنسان" ونحوها من الشعارات البراقة التي سئمنا سماعها و"هرمنا" من أجل "لحظة تاريخية" نرى فيها تلك الشعارات وقد ولدت من رحم الكلام والصدح الذي يصم الآذان بلا نتيجة.. إلى نور الواقع, كل تلك الشعارات باتت المناداة بها تتزامن وتتلازم مع تطبيق ما يناقضها جملة وتفصيلاً! فكأنما هي ثوب أو قطعة قماش تفصل وتلبس كيفما اتفق, يؤخذ منها ما يناسب الأهواء والمصالح ويلقى بما دون ذلك بعيدا.

غير أننا لا نستطيع أن نلقي باللوم كله على إنسان هذا العصر, ذلك أنه في النهاية يظل ربيب الثقافة الاستهلاكية الرقمية التي ولد فوجد نفسه في أحضانها, وبالتالي فهو لا يملك من أمره الكثير حيالها. لكن في ذات الوقت لا يكمننا أن نعفيه من كامل مسؤوليته تجاه هذه المعضلة. فهو يظل في نهاية المطاف إنسانا ذو كيانٍ مركب متجاوز لحتمية المادة والأرقام والسلع والأشياء (رغم كل المحاولات الدّؤوبة التي بذلت في سبيل إذابته فيها وجعله جزءا لا يتجزأ منها وتجريده من قدرته على الفكاك من براثنها). إذ يظل لديه ضمير ووعي حي سيظل حاضرا وحيا فيه ما بقي بين جنبيه قلب ينبض وعقل يفكر وضمير ينظر ويتأمل.

Sunday, March 18, 2012

ألا يفترض أن يكون في المدرسة؟؟

   لم يقل شيئا، بل اكتفى فقط بأن فتح الباب فجأة ومد يده التي يحمل بها "كروتا" كُتبت عليها أدعية وأذكار وآيات قرآنية في مشهد ليس غريبا على أحد منا، غير أن الجديد هذه المرة أن ما حدث لم يكن فقط داخل الحرم الجامعي بل بين قاعات المحاضرات أيضا!



“Isn't he supposed to be at school now?!”


   كان هذا هو السؤال الذي نطق به مدرسنا الأمريكي الوافد من ولاية لويزيانا داخل قاعة المحاضرة، نظر هذا الوافد إلى بلادنا بدهشة وامتعاض عندما رأى ذلك المشهد، ويبدو أنه لم يعتد على رؤية الأطفال يبيعون "كروت" الأدعية بين ردهات وقاعات الجامعة في الوقت الذي يفترض فيهم أن يمضوه في فصول مدرستهم يتعلمون ويلعبون. هذا على عكسنا نحن تماما، حيث مر مشهد الطفل وبيده "الكروت" أمامنا هكذا ببساطة وكأنه أمر عادي تماما، لكن إن كنا صادقين مع أنفسنا فهو ليس كذلك أبدا!

“What a shame!”

   إنه لمن المؤلم حقا أن يمر مشهد الطفل ذو الثياب البالية الرثة يبيع اللبان (العلكة) أو يمسح زجاج السيارة بخرقة قماش متسخة أمام أعيننا دون أن يرف لنا جفن، ثم نمضي في طريقنا وكأننا لم نر شيئا يستحق الاهتمام! .. إنه لأمر مخجل ويفتح الباب للمزيد من الاسئلة التي تتعلق بطفولة هؤلاء الأطفال المهدورة بين الأرصفة وعلى شوارع المدينة!

   قد نتفق (أو لا نتفق) على أن موضوع التسوّل بصفة عامة موضوع شائك و علاجه معقد ويحتاج إلى وقت وجهد، إذ لم نعد نميز المتسول المحتاج حقا من ذاك الذي اتخذ من التسوّل مهنة أو حرفة.. أو "بيزنس" كما يقولون.

   ولكن عندما يتعلق الموضوع بفلذات أكبادنا ومن يفترض بنا أن نعاملهم على أنهم "جيل المستقبل" فهنا يتضح أن الأمر أكبر خطورة مما يبدو عليه، وأنه بحاجة إلى حل جذري في أقرب وقت ممكن. هذا إذا كنا جميعا نتفق على أن دفع  الأطفال إلى الشوارع وتعليمهم أساليب التسول وفنونه، فيقضون بذلك فترة حياتهم بين الشوارع وبين مراكز الأمن والسجون (والتي سرعان ما يعودون إلى عادتهم القديمة فور خروجهم منها لضعف الرادع القانوني أو حتى غيابه للأسف الشديد) بدلا من أن يتعلموا علما نافعا أو حرفة شريفة تكسبهم قوت يومهم بكرامة هي معضلة شنيعة يعد تجاهلها وغض الطرف عنها جريمة سنحاسب عليها أمام الله!


….

Tuesday, March 13, 2012

استطراد: التفكير بطريقة مختلفة


 هذا المقال تابع للمقال السابق.


    بداية، وقبل الدخول في صلب الموضوع، أود أن أبدأ بالتنويه الذي أنهيت به مقالتي السابقة، وهو أن تناولي لشركة "آبل" هنا ليس استهدافا لها بحد ذاتها كشركة. إنما القصد هو تناولها باعتبارها أنموذجا حيا يجسد جانبا كبيرا من النظام الرأسمالي.

 
  • فكر بطريقة مختلفة:
لعل من أبرز ما يلفت انتباه الناظر إلى إعلانات شركة آبل وشعاراتها هو جملة "فكر بطريقة مختلفة" (Think differently). صحيح أنه تم التوقف عن استخدامه قبل سنوات، لكن دلالته  لا ينبغي أن نغض الطرف عنها. فللوهلة الأولى يشعرك هذا الشعار البسيط الرنان بالارتياح، ولكن مهلا.. ماذا تعني هذه العبارة في ظل السياسة التي تتبعها الشركة؟ في الحقيقة هي لا تعني شيئا. أو على الأقل لا وجود لعلاقة منطقية بينها وبين ما نظن أنها تعنيه. فهي يمكن اعتبارها تناقضا غريبا وطريفا بعض الشيء. ولكن ما هو أهم من ذلك أن دلالته الفكرية تشكل نموذجا حيا يلخص الحالة تماما ويظهرها بوضوح.

 فعندما يدعونا الشعار للتفكير بطريقة مختلفة، فمن المفترض أن يكون لذلك محل من الإعراب ضمن المنظومة التي تعمل الشركة في إطارها. لكن ذلك لا وجود له فعليا. فآبل شركة احتكارية بامتياز، فلا يمكن التعامل مع ما تقدمه من منتجات وخدمات إلا ضمن علاقة البائع والزبون فحسب. وليس هناك خيارات كثيرة أمام الزبون، وبالتالي فإن التفكير "بطريقة مختلفة" ليس مجديا وليس له معنى.

فالصورة هنا أشبه بصورة الأنظمة الاستبدادية التي ترتدي ثوبا زائف من الديمقراطية. فالديمقراطية وحرية التعبير هنا لا تعدو كونها شعارات لا تعدو كونها حبرا على ورق.

 فالمستخدم لما تنتجه آبل، ليس له الحق في أن يعدل عليه أو يطوره أو يضيف إليه. وبالتالي فأي فكرة تخطر ببالك لا يمكنك أن تطبقها على أرض الواقع فعليا.

لكن قد يكون هناك مقصدا آخر من وراء هذه العبارة وهي أن اقتناءك واستخدامك للآيفون أو الآيباد مثلا (بدلا من ما يشبهه من منتجات الشركات الآخرى)، تجعل منك شخصا مختلفا!
و لعل هذا التفسير أكثر منطقية من السابق، مما يجعله أكثر خطورة وأهمية. ذلك أن آبل تشتهر بمقدرتها الفائقة على تحويل مستخدميها إلى جماعة من المعجبين المغرمين بها. فهم لا يتوقفون على مدحها والتسبيح بحمدها اعتقادا منهم أنها تسعى دوما لراحتهم وتسهيل حياتهم. لا شك أن منتجات آبل ذات جودة عالية ورفاهية كبيرة (رغم تحفظي الشديد على هذه العبارة)، لكن هل هذا هو كل شي؟ لن أجيب عن هذا السؤال تجنبا للإطالة، لكن ربما في مقال قادم بإذن الله.