Monday, February 20, 2012

الجزء المأكول من التفاحة


   قال بينجامين فرانكلين ذات مرة أن أولئك الذين يضحون بحريتهم في سبيل حصولهم على الأمن لا يستحقون أيا منهما. والحقيقة أن قولا مشابها يمكن أن يقال عن علاقة الحرية والأمن بالرفاهية والسهولة ورغد العيش. فعندما يكون السعي نحو الرفاهية الزائدة على حساب الحرية والأمن فعندئذ يتضح أننا لا نستحق أيا من ذلك على الإطلاق.

   وللأسف, فنحن نعيش اليوم في عصر سيطرت عليه  الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الضخمة, وتحكمه استراتيجيات التسويق التجاري وخططه المحكمة وأساليبه التي لا تدع مجالا ولا تألوا جهدا في دفع الناس نحو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك دون تفكير أو تدبر.

   وإن التطور التقني الذي وصل اليوم إلى تسارع مرعب لم يعد يبقي ولا يذر. وباتت الآلة الإنتاجية تدور دون توقف, وأصبح تسويق المنتجات يعتمد بصورة أساسية على الإبهار والتشويق بشكل أساسي. والهدف من ذلك كله هو الوصول بالمستهلك إلى مرحلة يشعر فيها بأن هذه الشركة أو تلك تكرس جل وقتها ومالها من أجل إسعاده وتسهيل حياته وإضفاء جو من الراحة والمتعة عليها, في حين أن كل ما تسعى إليه هو في الحقيقة ليس سوى تدجينه وبرمجته إلى درجة ان يتعرف على ذاته وشخصيته من خلال ما يستهلكه من منتجاتها (هربرت ماركوز).

   و إن الصورة التي ارتأيت أن نأخذها كنموذج لتقريب الفكرة تتمثل في شعار شركة "آبل" الشهير. فهو عبارة عن تفاحة أكلت منها قضمة واحدة. و سواء أكان هذا الشعار مقصودا لهذا الغرض أم لا إلا أنه ما زال يحمل في طياته ذلك المعنى الذي نتحدث عنه. فشركة آبل تمنح زبائنها و"عشاقها" الكثير من الجودة الرفاهية وسهولة الاستخدام, ولكنها في المقابل تأخذ منهم شيئا أكثر أهمية وخطورة من ذلك كله. فهي تتحكم بكل ما ينزل على أجهزتهم من البرامج, وتدفعهم دائما إلى الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك. ولا أدل على ذلك من إصدارهم لمنتجاتهم وهي تفتقد إلى أبسط المواصفات والخصائص في البداية ثم تشرع بعد ذلك تدريجيا بإضافة المزيد من المواصفات في الإصدارات اللاحقة.

   و مهما كانت مساوئ وسلبيات ما تصدره آبل من الأجهزة إلا أن ذلك لن يكون له ذلك الحضور الكبير (إن وجد أصلا) ضمن المنطق الذي يفكر به عشاق هذه الشركة وزبائنها الأوفياء. وهذا لعدة أسباب. فمنها أن الشركة وصلت عند شريحة كبيرة من الناس إلى منزلة تكاد تكون من الأهمية والعلو لدرجة حصولها على ثقتهم التامة (والعمياء في معظم الأحيان). طبعا فضلا عن أن زعيمها الراحل ستيف جوبز كان يعتبر من قبل كثير من الناس وكأنه كاد يبلغ درجة النبوة! فكان لخطاباته وكلماته تأثير سحري عجيب على الكثير من الناس. وبمجرد أن يميط الغطاء عن منتجه الجديد كان وقع ذلك على جمهوره كما لو أنه قدم لهم الحل السحري لكل مشاكل العالم! إلا أنه في واقع الأمر لم يقدم لهم سوى مادة استهلاكية جديدة يدفعهم بحضوره الساحر وأسلوبه البارع في الخطاب والحديث وجذب الانتباه إلى الإلقاء بالمزيد من الأموال الطائلة في جيبه للحصول عليها!

  وفي هذا الصدد, تتبادر إلى الذهن صورتان من وحل الواقع تزيدان الفكرة وضوحا. فأما الصورة الأولى فهي عندما نضع مشهد عشاق "آبل" في إحدى البلدان الأوروبية وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بالآلاف (!) أمام فروع الشركة في الليلة التي تسبق إصدار المنتج الجديد من أجل أن يتسابقوا لكي يكونوا من أوائل من يحصلون عليه, إلى جانب مشهد آخر في إحدى البلدان الإفريقية التي تمزقها المجاعة حيث يقف الأطفال مع أمهاتهم وهم حفاة عراة أمام خيام هيئات الإغاثة والصليب الأحمر أملا في الحصول على علاج ورغيف خبز!

  وأما الصورة الثانية, فهي في الواقع لا تخرج من حدود أمريكا نفسها, وهي عندما نضع خبر وفاة ستيف جوبز وردة الفعل الكبيرة تجاهه في كافة وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية, ومدى الصدمة التي انتابت شرائح كبيرة من الناس حتى ممن ليسو من محبي شركة آبل, إلى جانب خبر وفاة أحد أهم علماء الحاسوب في العالم وهو دينيس ريتشي "Dennis Ritchie" والذي لم يلق هذا الانتباه الكبير, حيث مات الرجل ولم يسمع بوفاته (أو حتى يعرفه) إلا المتخصصون في مجال علوم الحاسوب فقط(و ليس كل هؤلاء أيضا). طبعا هذا على الرغم من أن ستيف جوبز ودينيس ريتشي قد توفيا في فترة متقاربة جدا.

 فأما في الصورة الأولى فنرى بوضوح الفرق بين الرجل الأبيض وحلمه الاستهلاكي النهم من جهة وبين حلم الطفل الإفريقي الجائع الذي لا يتعدى الحصول على دواء وكسرة خبز  تسد جوعه من جهة أخرى.

 وأما في الصورة الثانية, فنرى مدى "لا عقلانية" النظام الرأسمالي الأمريكي. و لتتضح هذه  الصورة لنتدحث قليلا عن دينيس ريتشي لنتعرف على هذا الرجل عن قرب. فدينيس ريتشي هو عالم حاسوب أمريكي اشتهر وارتبط اسمه بتصميم لغة البرمجة "سي" و التي هي تمثل النواة التي انبثقت عنها كافة تطبيقات الحاسوب التي نعرفها الآن. فمن لغة "سي" خرجت لغة ال"سي++" على يد عالم الحاسوب الدنماركي ستراوستروب, ومن لغة ال"سي" أيضا خرج نظام التشغيل "يونكس" (Unix) والذي بني على أساسه نظام الiOS (وهو نظام التشغيل الذي تملكه "آبل"), بل وحتى نظام اللينكس "Linux" مفتوح المصدر  لو لا لغة البرمجة "سي" لما كان له وجود كما نعرفه اليوم. وهناك المزيد أيضا ولكن منعا للإطالة سنكتفي بهذا الكم من الأمثلة.

  يتضح الآن أنه تبعا للنظام الرأسمالي الأمريكي, فإن الغلبة والشهرة لا علاقة لها بالإنجازات والنجاحات على أرض الواقع بقدر ما تتعلق بما يملكه المرء من سلطة المال والنفوذ, أو ببساطة, بمقدرة المرء على الظهور أمام شاشات التلفاز العالمية. كما يتضح أيضا أن الحلم الأمريكي لا يعدو كونه حلما فحسب! فكما قال نجم "الستاند أب كوميدي" الأمريكي الراحل جورج كارلن "فإن الحلم الأمريكي إنما سمي بهذا الاسم لأنه ينبغي عليك أن تكون نائما حتى تصدقه!".

   و في الختام, بقي أن أوضح أن حديثنا عن شركة "آبل" في هذا المقال لا يقصد به انتقاد هذه الشركة والهجوم عليها (و على زعيمها الراحل ستيف جوبز) بحد ذاتها, وإنما قصدنا الحديث عنها بوصفها حالة واقعة تجسد المشهد الذي نسعى إلى توضيحه وتأمله.

1 comment:

  1. فعلا لطالما أثار تعجبي ارتباط الناس بشركة أبل حتى أن بعضهم قد يحس بالإهانة إذا انتقدت الشركة أو منتجاتها.
    صراحة أنا من معجبي شركة سامسونج ولكني لم أصل لهذه الدرجة من "الانتماء" لهذه الشركة أو تلك. إذا كنت بحاجة لمنتج فإني أشتريه طبعا باﻷخذ بعين الاعتبار الجودة والسعر المناسب أما الاستهلاك لمجرد المكانة الاجتماعية فلا حاجة لي بها.

    لقد جعلني مقالك أتذكر لقطة من مسلسل Futurama حين يقول fry: "ٍShut up and take my money!" لشراء الجهاز الجديد من "مابل". للأسف هذه حال معظم الناس اﻵن.

    وأحب أن أذكر هنا موضوعا لم تتطرق له، أقصد خصوصية المستخدم، فيبدو أنه قد قرئ عليها السلام وانتهى.

    ReplyDelete